إشراقة

 

المُؤَهَّل لايضيع إلاّ إذا كانت لديه نقطة ضعف خطيرة

 

 

 

     قد يحدث أنّ المُؤَهَّل الّلائق علميًّا وفكريًّا وإتقانًا لفنّ أو مهنة يبقى متخلّفًا عن ركب التقدم الاقتصادي والرقي الماديّ والمكانة الدنيوية والسمعة الاجتماعية ، ويسبقه في ذلك كله أو بعضه من من يفقد الأهلية ، ويَعْدَمُ اللياقة أو يقل عنه أهلية علمية ولياقة فكرية وعبقرية فنية ، أو براعة اختراعية ، أو فضيلة اكتشافية . وهنا يتأذّى المُؤَهَّل نفسيًّا ، ويتضايق فكريًّا ، ويتحطّم داخليًّا ، ويصاب باليأس والإحباط ، وكثيرًا ما يفكرّ أنه أخطأ عندما كسب الأهلية واجتهد أن يكون قادرًا على العمل والانجاز؛ وأن غير المؤهّل أو القليل الأهلية أحسن عندما أمضى عنفوانَ حياته مهملاً لامباليًا بشيء ؛ حيث أعانه عدمُ أهليّته أو قلّتُها على أن يسبقه في طريق الحياة ، ومشوار الرقي المادي ، والمكان المعنوي ، بأشواط بعيدة ؛ فهو – فاقدُ الأهلية أو قليلُها – ناحجٌ كلَّ النجاح فيما يظنّ الناس ، وهو – المُؤَهَّلُ القادر – فاشل لديهم كلَّ الفشل .

     فليعلم المُؤَهَّل أنّ التقدم المادّيَّ بأنواعه وكلّها أو بعضها ، بما فيها الرقي الاقتصادي ، والسمعة الاجتماعية ، والمكانة المرموقة لدى الناس ، لم يكن قطّ ، ولن يكون أبدًا ، دليلاً قاطعًا ، وعلامة مؤكدة، على كون المرأ مقبولاً لدى الله ، ومحبوبًا لدى الملأ الأعلى . السمعةُ الطيبةُ قد يحظى بها الجاهل، والرقيُّ الماديُّ قد يكسبه الرجلُ العاديُّ ، والثروةُ الاقتصاديةُ الطائلةُ قد تكون نصيبًا عفويًّا لمن لايُتْقِنُ علمًا ، ولايُجِيْدُ فنًّا ، ولايُحْسِنُ عملاً . إنّ السننَ الإلهيّةَ المُقَرَّرَةَ لإدارة الكون ، والقوانينَ الرّبَّانيّةَ الموضوعةَ للتعامل مع الخلق في هذه الدنيا الفانية ، لايمكن فهمُها جيدًا ، بهذا المستوى السطحي ، والمقياس العابر . إنّها موصولة بمصالح لايعلمها إلاّ الله ، وحكمٍ لم يشأ الله عزّ وجلّ أن يطّلع عليها عبادُه.

     إنّ هذه الدنيا دارالعمل ، وليست دارَ الجزاء ؛ فقد ينال المرأ بعض الجزاء لقاءَ ما عمله في هذه الدنيا إذا شاءت حكمته تعالى واقتضت مصلحته . إن الجزاء الأوفي والثواب الموفور إنما يناله مذخورًا في الدار الآخرة الباقية إذا سعد بالإيمان ، وحظي بالتوفيق للعمل والإخلاص فيما عمله وتركه . أمّا إذا حُرِمَ ذلك ، فسيكون محرومًا من الجزاء هناك كما بقي محرومًا ههنا . اللهم اجعلنا من المحظوظين ولاتجعلنا من المحرومين.

     على أنّ المُؤَهَّل ، القادرَ على الأداء ، الحريصَ على العطاء ، لايضيع هو ، ولا يذهب عملُه سُدًى ، واجتهادُه باطلاً ؛ لأنّ عمله وتحركه سيُكْسِبُه عزًّا في المادة أو المعنى أو في كليهما ؛ لأنّ الأهليّة المقرونة بالعمل لاتدع المرأ لايحظى بمقابل تجاه ما كسبه من اللياقة ، واصطنعه من العمل ، وتبنّا من الإنجاز .

     إنّ المُؤَهَّل الشغوف بالعمل ، لايضيع إلاّ إذا كان لديه نقطةُ ضعف خطيرةٌ ، تجعله لاينتفع بأهليته، ولاينفع بها غيره . مثلاً رجلٌ مُؤَهَّلٌ ذوأهليّة فائقة ؛ لكنّه غيّاب ونمّام ، أوخصّام ، أو نفور غير ألوف ، أو لا يعرف أن يتماشى مع المجتمع ، أو يجامل الزملاء ، أو يداري المسؤولين، أو يرضي المديرين ، أو غضوب يُشْعِلُه تصرفٌ تافهٌ من الشركاء، أو يتقزّز من كل من لاينزل على مستواه من التعامل والأداء ؛ فهذا المؤهل ذو القدرة على مهنة من المهن ، الفاقد الأهلية فيما يتعلق بالمهارة في التعامل مع أعضاء المجتمع البشري ، قد يضيع ، ويتعرض للتجاهل أو اللامباة من قبل الناس ، لا لأنه يحمل الأهلية العمليّة والقدرة على إنجاز مهنة ما؛ ولكنّه إنما يضيع لأنّه لم يُؤَهّلْ نفسَه لكي تتعاطى مع الناس بالشكل الذي يرضونه .

     وقد يكون المُؤَهَّل مُؤَهَّلاً بمعنى الكلمة ولائقًا من كثير من الوجوه ويكون بحيث لايرفضه المجتمع ، ولايزهد فيه زميل من الزملاء ، ورغم ذلك قد لايحظى – فيما يبدو له – بالتقدير الذي يستحقه ، والإعجاب الذي كان ينبغي أن يكون نصيبه . فلا بدّ أن نعلم أنّ هذا الموقف إنما يرجع إلى مشيئة الله تعالى؛ لأنه يفعل مايريد، ولايكون إلاّ ما يريد ؛ ولكن الذي يكسبه الصبر ، ويجزل له الأجر ، هو إيمانُه بأنّ الله لن يضيع أجره في الآخرة يوم يكون أحوج ما يكون إليه ، ويتمنى أن لو ذخرت أجوره كلها لهذا اليوم لكان أحسن؛ وإيمانه بأنّ مع العسر يسرًا ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ؛ وأن الأمة لواجتمعت على أن ينفعوه بشيء، لم ينفعوه إلاّ بشيء قد كتبه الله له ، وإن اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلاّ بشيء قد كتبه الله عليه، رُفِعتِ الأقلامُ ، وخبّت الصحف، كما أخبر بذلك النبي الصادق المصدوق .

     فإذا وجدت أن مهملاً ، فاقد الأهلية ، ومتحررًا من أحكام الشريعة ، ومنطلقًا من كل قيد من قيود القوانين الإسلامية ، يبدو ناجحًا في هذه الدنيا ، وحظيًّا بمراداته وتمنياته ، قد تدفقت له وسائل الحياة ، وتوفرت له أسباب المعيشة ، واجتمعت له التسهيلات وتنوعّت له الإمكانيات، فاعلم أن ذلك راجع إلى حكمة الله ، وأنه ربّما يهمل العاصى ، ويتغافل – إذا صحّ التعبير – لأجل مسمى عن الباغي ، لكي يزداد شقاءً ، ويتكاثر حرمانًا من رضا الله ، وجمعًا لأسباب سخطه وغضبه ، فيكون مصيره إلى النار .

     على أنّ النجاح الظاهـــر ، لايكون نجــاحًا دائمًا في الباطن ؛ فقد يكون الناجح نجاحًا ظاهرًا ، فاشلاً فشلاً باطنًا . وقد يكون الفاشل فشلاً ظاهرًا ، ناجحًا نجاحًا باطنًا . إن الراحة والنعيم إنما يملكهما الله تعالى ؛ فإذا شاء حوّل الحرمان حظوةً ونعمة ، وإذا شاء حوّل النعمة نقمة ، والراحة الظاهرة عذابًا مقيمًا وألمًا ممضًّا .

     ومن هنا وجب على المسلم أن يسأل ربّه «العافية» وهي كلمة جامعة لكل ما يسعد الحياة . وقد يحصل ذلك في إطار الشقاء الظاهر ، بينما قد يكون الشقاء حاصلاً في إطار «السعادة» الظاهرة .

     اللهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .

(تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الاثنين 15/3/ 1426هـ = 25/4/2005م)

أبو أسامة نور

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الأولي 1426هـ = يونيو – يوليو 2005م ، العـدد : 5 ، السنـة : 29.